المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة  | اتصل بنا

المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة

من جهود الأزهر فى خدمة الإسلام - أ .د / عبد الفتاح البربري

الثلاثاء, 15 تشرين2/نوفمبر 2016 09:55

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد, وعلى آله الطيبين الطاهرين, وصحابته الغر الميامين, ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد ..

فإن الحديث عن الأزهر الشريف يجعلنا نعيش فى رحاب النور والمعرفة، فى رحاب الهداية والثقافة .
إن الجامع والعلم قرينان فى بناء الحياة وإصلاح الإنسان، ليكون جديرًا بعبادة الله الواحد الديان، ولذلك كتبَ الله الرفعةَ لبيوته التى يُذكرُ فيها اسمه فقال:" فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" (النور:36) كما كتب الرفعة لأهل العلم فقال: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة:11).
كذلك جمع القرآن الكريم بين خشية الله تعالى وبين المسجد فقال الله تعالى:﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾ (التوبة:18)، كما جمع بين خشية الله تعالى وبين العلم فقال جل شأنه : ﴿إِنَّمَا‮ ‬يَخْشَى اللَّهَ‮ ‬مِنْ‮ ‬عِبَادِهِ‮ ‬الْعُلَمَاء﴾ (فاطر:28).
والأزهر هو المسجد والمدرسة منذ أكثر من ألف عام ولا يزال، فما أعلى قدره، وما أعظم منزلته، ولله در شوقى فى قوله:

قم فى فم الدنيا وحى الأزهرا *** وانثر على سمع الزمان الجوهرا
واجعل مكان الدر إن فصلته *** فى مدحه خرز السماء النيرا
واذكره بعد المسجدين معظما *** لمساجد الله الثلاثة مكبــــــــرا
واخشع مليا واقض حق أئمة *** طلعوا به زهـرا وماجـوا أبحـرا
كانوا أجل من الملوك جــلالة *** وأعز سلطانا وأفخـــم مظهـــرا
زمن المخاوف كان فيه جنابُهم *** حــرمَ الأمــان وكان ظِلُّــهم الـذرا
من كل بحر فى الشريعة زاخـر *** ويريكَه الخلُـقُ العظيمُ غضنفــرا

إنه مسجدنا الأكبر ومعهدنا الأزهر, إنه الدين والدنيا، إنه الشريعة والكون، إنه التفسير والطب، إنه الحديث والهندسة، إنه الأصول والقانون، إنه الفقه والطبيعة، إنه النحو والفيزياء، إنه الصرف والكيمياء، إنه الأدب والفلك، إنه البلاغة والرياضيات، إنه الدعوة والاقتصاد، إنه السيرة والإنسان، إنه التوحيد والأكوان، إنه القرآن والحياة، إنه الجامع والجامعة .
إنه المسجد الجامع الذى رفع الله شأنه، فبوأه مكانة لم يتبوأها سواه، وجعل له فى مصر والعالم قاطبة قيمة وقامة لم يبلغها غيره من مساجد وبيوت الله، ما عدا الحرمين الشريفين والمسجدَ الأقصى، عظم ثلاثتَها الله.
لقد أخذ الأزهر الشريف على عاتقه نشر نور الله فى الكون، بتدريس علوم الدين والدنيا: علوم الشريعة واللغة، وكذلك العلوم المدنية، الأمر الذى ييسر للإنسان سبيله، ويسير له حياته، ويجعله مدركا لعظمة الله فى قوله، ولعظمة الله فى كونه، فى ضوء قوله تعالى : ﴿َنُرِيهِمْ‮ ‬آيَاتِنَا فِي‮ ‬الآفَاقِ‮ ‬وَفِي‮ ‬أَنْفُسِهِمْ‮ ‬حَتَّى‮ ‬يَتَبَيَّنَ‮ ‬لَهُمْ‮ ‬أَنَّهُ‮ ‬الْحَق﴾ (فصلت:53)
إن الأزهر الشريف بعلمائه، وعلى مدى تاريخه، عُنِى بكتاب الله تعالى، تلاوة وتحفيظا، تعلما وتعليما، شرحا وتوضيحا، دراسة وتفسيرا، تعمقا وتبليغا، رجاء أن ينال الخيرية، التى بَشّر بها سيدُ البشرية، محمدٌ ﷺ، ففى صحيح البخارى عن عثمان رضى الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
لقد عكف الأزهر على القيام برسالة الدعوة إلى الله, اقتداءً بحبيبه ومجتباه، وخليله ومصطفاه، وهو إذْ يقدم هذا الدين العظيم إلى الناس، يقدمه بوجهه الحقيقى، بوجهه المشرق، الوضىء، المضيىء، الداعى إلى التآخى والتآزر, والتعاون والتواصل، والتحاب والتكافل، والتراحم والتلاحم، تطبيقا لأخلاق ديننا وسجايا نبينا ﷺ.
إن الأزهر الشريف يقدم الإسلام بوسطيته السمحة، التى تظهر بجلاء أنه دين الحق والخير، دين العطاء والإخاء، دين الأمن والأمان، دين السلم والسلام، دين التسامى والتسامح والتصالح .
دين يشـــــيد آية فـــــى آية
لبناتــــه الســــــورات والأضـــــواء
الحق فيه هو الأساس وكيف لا
والله جـــــل جلالـــه البنـــــــــاء
إن الإسلام يضىء الدنيا بنوره وآياته، ويضىء القلوب بعطاءاته وإشراقاته، ويضىء وجه الحياة بأحكامه وتشريعاته، وهذا ما يركز عليه الأزهر, وما يسلط الأضواءعليه, ويقدم به هذا الدين العظيم.
والأزهر الشريف ينهض بهذه الرسالة، ويحمل تلك الأمانة، ويؤدى هذه المهمة الجليلة، بالدعوة الى الله -عز وجل – بالحكمة والموعظة الحسنة، امتثالا لقول الله تعالى لسيد الدعاة ﷺ : ﴿ادْعُ‮ ‬إِلَى سَبِيلِ‮ ‬رَبِّكَ‮ ‬بِالْحِكْمَةِ‮ ‬وَالْمَوْعِظَةِ‮ ‬الْحَسَنَةِ‬﴾ (النحل:125).
الحكمة التى تقتضى أن يُهيّأ الداعية ليعرف ماذا يقول؟ ولمن يقول؟ ومتى يقول؟ وكيف يقول؟ ومن ثم يتخير حسب أحوال المتلقين من الكلمـات أقربها، ومن الألفاظ أنسبها، ومن التعبيرات أعذبها، ومن الجمل أكملها، ومن التراكيب أجملها، ومن الأساليب أبدعها، ومن الصياغات أروعها، ومن الأدلة والشواهد أدقها وأنفعها، حتى يمتع القلوب، ويقنع العقول، بِهُدَى أعظمِ دينٍ جاء به أعظم رسول عليه الصلاة والسلام.
إن الأزهر الشريف يدعو إلى الله عز وجل دائما بالكلمة الطيبة التى أشاد الله بها فى قوله : ﴿‮‬تَرَى كَيْفَ‮ ‬ضَرَبَ‮ ‬اللَّهُ‮ ‬مَثَلاً‮ ‬كَلِمَةً‮ ‬طَيِّبَةً‮ ‬كَشَجَرَةٍ‮ ‬طَيِّبَةٍ‮ ‬أَصْلُهَا ثَابِتٌ‮ ‬وَفَرْعُهَا فِي‮ ‬السَّمَاءِ‮ ‬تُؤْتِي‮ ‬أُكُلَهَا كُلَّ‮ ‬حِينٍ‮ ‬بِإِذْنِ‮ ‬رَبِّهَا وَيَضْرِبُ‮ ‬اللَّهُ‮ ‬الأَمْثَالَ‮ ‬لِلنَّاسِ‮ ‬لَعَلَّهُمْ‮ ‬يَتَذَكَّرُونَ‮ وَمَثَلُ‮ ‬كَلِمَةٍ‮ ‬خَبِيثَةٍ‮ ‬كَشَجَرَةٍ‮ ‬خَبِيثَةٍ‮ ‬اجْتُثَّتْ‮ ‬مِنْ‮ ‬فَوْقِ‮ ‬الأَرْضِ‮ ‬مَا لَهَا مِنْ‮ ‬قَرَارٍ‮ ‮‬يُثَبِّتُ‮ ‬اللَّهُ‮ ‬الَّذِينَ‮ ‬آمَنُوا بِالْقَوْلِ‮ ‬الثَّابِتِ‮ ‬فِي‮ ‬الْحَيَاةِ‮ ‬الدُّنْيَا وَفِي‮ ‬الآخِرَةِ‮ ‬وَيُضِلُّ‮ ‬اللَّهُ‮ ‬الظَّالِمِينَ‮ ‬وَيَفْعَلُ‮ ‬اللَّهُ‮ ‬مَا‮ ‬يَشَاءُ‮ ‬﴾ (إبراهيم:24-27).
شبه الله عز وجل الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، والشجرةُ الطيبة يانعة مثمرة، باسقة ناضرة، ثابتة جذورها، راسخة فى باطن الأرض أصولها، ممتدة فروعها، عالية أغصانها، وفير خيرها، كثير ثمرها شهى طعمها، عظيم نفعها, وكذلك الكلمة الطيبة، تشفى القلوب، وتشرح الصدور، وتداوى الجراح، وتمتع من يسمعها، وتقنع من يعقلها، وتؤلف القلوب، وتقرب الأنفس، وتفتح أبواب الخير، وتغلق أبواب الشر .
لأنها كلمة هادئة, كلمة هادية، كلمة هادفة، كلمة بانية، تبنى ولا تهدم، تُشيّد ولا تقوض، تَهدى ولا تُؤذى، تصلح ولا تفسد، تحبب ولا تبغض، تبشر ولا تنفر، تيسر ولا تعسر، تقرب ولا تبعد، تجمع ولا تفرق، توحد ولا تبدد، توفق ولا تمزّق، تُجَمِّل ولا تقبح، تَشْرح ولا تفضح، تنصح ولا تجرح .
الكلمة الطيبة تهدى الى الخير، وتحث على البر، وتدفع إلى صلاح الفرد والمجتمع، وتضىء بنورها ساحاتِ القلوبِ، وأرجاءَ الوجود.
والأزهر الشريف بهذه الكلمة الطيبة، وبهذا الأسلوب الطيب، فى الحديث عن الإسلام والدعوة إليه ليس وقفا على أساتذته وحدهم، وإنما هو ذخيرة للعالم الإسلامى كله، تفد إليه البعوث الإسلامية من كل أقطار الدنيا ليتفقهوا فى دين الله تعالى ممتثلين لقوله جــل شأنه: ﴿ْلا نَفَرَ‮ ‬مِنْ‮ ‬كُلِّ‮ ‬فِرْقَةٍ‮ ‬مِنْهُمْ‮ ‬طَائِفَةٌ‮ ‬لِيَتَفَقَّهُوا فِي‮ ‬الدِّينِ‮ ‬وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ‮ ‬إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ‮ ‬لَعَلَّهُمْ‮ ‬يَحْذَرُونَ‮ ‬﴾ (التوبة:122) وبعد أن يرجعوا تستقبلهم أوطانهم استقبال الفاتحين، وهم فرحون بهم، سعداءُ بعودتهم، فخورون بتعلمهم فى الأزهر الشريف، يحملون شهادته، ويرفعون رايته، وتحمل صدورُهم أوسمتَه وتَعَوّد مؤرخونا ومَن يتحدث عن أزهرنا أن يصفوه بوصف (الشريف)، وهو وصف حق وصدق، هو له أهل، وبه جدير، وذلك لشرف الرسالة التى يدعو إليها، وشرف المهمة التى يؤديها، وشرف الأمانة التى يحملها، وهى نشرُ نور الله فى الكون، وتحقيقُ السلام والوئام بين البشر جميعا، واحترامُ كرامة الإنسان أيا كان دينُه، وأيا كان عنصره، وأيا كان موطنه.
وحسب الإسلام شرفا أنه يرقى بمن يعتنقه، وبقدر الالتزام بروحه ونصوصه، وعظمته وسماحته، يكون التقدم والتحضر، والرخاء والازدهار، على عكس الأديان الأخرى التى تقهقرت أوروبا فى ظلها، وتاهت فى ظلمات العصور الوسطى عندما هيمنت دور العبادات على مقدرات الحياة فيها.
وقد شاء الله عز وجل – كما قال بعض مشايخ أزهرنا العظيم - أن يكون الأزهر الشريف أحد الحصون الحافظة لكتاب الله، إذ قام أكثرَ من ألف عام على علوم القرآن الكريم، وتحليل أسلوبه، وتوضيح إعجازه، شرحا فى حلقات الدرس، وتأليفا فى صفحات الكتب، ومحاضرات فى المساجد ودور العلم، مضيفا إلى ذلك ما يتطلبه شرح الكتاب الحكيم من روافدِ أصول الفكر الإسلامى، وأَخَصُّها حديث رسول الله ﷺ، وعلومُ التشريع الفقهى، وفنونُ اللسان العربى، وموادُّ التربية الإسلامية، وحججُ العقيدة الإسلامية، مما ازدهر به التراث الفكرى فى الإسلام .
ومع امتنان الله عز وجل على الأزهـــر بتفــرده بالمحافظة على العلوم الشرعية والعربية، وصون التراث الإسلامى وحمايته على مر القرون، فقد امتد سخاؤه لعلوم الدنيا كذلك، تلك العلوم التى تفيد الإنسان حيثما كان، فممن درَّس فى الأزهر كما ذكر الأستاذ الدكتور إبراهيم الهدهد فى سلسلة مقالاته فى مجلة الأزهر ابنُ يونس المصرى الذى يعده المستشرق سارتون أعظم فلكى فى عصره، وهو مخترع بندول الساعة قبل جاليليو بأكثر من 600 عام، و الحسن بن الهيثم الذى لقبه علماء الغرب بلقب بطليموس الثانى وقد ألف أكثر من 40 مؤلفا فى علوم الطبيعة، ومثلهما نجم الدين المصري, وزكريا الأنصارى وأحمد السجينى وسبط المارديني, وعبد الله الشنشوري, وأحمد الدمنهورى شيخ الأزهر ومثله الشيخ شمس الدين الحنفى والشيخ محمد المنير وغيرهم كثير. ومن العلماء من تعلم فى الأزهر، ثم ذهب إلى الخارج فأثرى البلاد التى رحل إليها كالشيخ محمد عياد الطنطاوى المتوفى 1378هـ الذى عين أستاذا للغة العربية فى جامعة بطرسبرج لمدة أربعة عشر عاما، كما كان علماء الأزهر رواد نهضة مصر الحديثة فى عهد محمد علي, فكان رفاعة الطهطاوى على رأس أول بعثة إلى فرنسا سنة 1241هـ 1826م، ولم تخل أية بعثة إلى أوربا من عدد كبير من الأزهريين " مجلة الأزهر عدد ذى القعدة 1436وجمادى الأولى 1437هـ" ومن ثم فقد جمع الأزهر فى جهوده العلمية بين الأصالة والمعاصرة.
هكذا كان الأزهر منذ أكثر من ألف عام، فى خدمة الإسلام، فقد قام بدوره، وأدى رسالته، وحمل أمانته، فلا غرابة إذن فى أن يكون من أشهر المساجد وأعرق الجامعات فى مصر والعالم كله.

بقلم: أ.د. عبد الفتاح البربرى
الرئيس العام للجمعية الشرعية - الأستاذ بجامعة الأزهر