طباعة

ماذا بعد الحج ؟ بقلم الأستاذ الدكتور: محمد المختار محمد المهدي – رحمه الله-

الخميس, 15 آب/أغسطس 2019 13:19

عاد الأبرارُ من حجاج بيت الله الحرام وقد خرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم لقد لَبُّوا أمر الله، وتعطرت ألسنتهم بالتلبية والتكبير، وذَرِفَتْ دُمُوعُهُمْ مستغفرين وتائبين، ودَعُوا ربهم يوم عرفات أن يطهرهم من الآثام وأن يوفقهم في قابل الأيام..

وعاشت معهم أمتهم في كل مكان تستحضر أسرار المشاعر والشعائر، وتردد معهم ذِكْر الواحد القادر، ويُدْرِكُ الجميعُ أنهم إن عاجلاً أو آجلاً سَيَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ فُرَادَى وَعَرَايَا لَابِسِينَ الأكفان كما لبسها الحجاج في الإحرام، لا فرق بين غني وفقير ولا بين قوي وضعيف، ولا بين رئيس ومرءوس، الجميع أمام الله سواء، لا أوسمة ولا نياشين ولا مال ولا بنين: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} (مريم: 93-95) درس تلقته الأمة من موسم الحج ليكون زَادَهَا في بقية العام..

ودرس آخر في سرعة التلبية لأوامر الله وإسلام الوجه دائمًا لله، فقد كان ذلك واضحًا وضوح الشمس في مواقف خليل الرحمن وهو يُسْكِنُ زَوْجَهُ وَوَلَدَهُ في وادٍ لا ماء فيه ولا زاد ولا أنيس ولا حفيظ، ولم يترك لهما سوى هذا الدعاء الضارع: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) وفي موقف أشد يستجيب لأمر الله في المنام أن يذبح ولده البار المبارك إسماعيل رافضًا محاولات إبليس في تعويقه عن التنفيذ، ضاربًا عُرْضَ الحائط بالمشاعر الأبوية والعواطف الإنسانية نحو ولده الوحيد!
فهل يدرك المسلمون حُجَّاجًا وغَيْرَ حجاج أن علامة القبول لأعمالهم أن يتغير حَالُ المسلم بعد أن عاش في رحاب هذه المعاني الروحية إلى الإقبال على الطاعة والنفور من المعصية، وبدء حياة جديدة شعارها: التلبية والاستقامة والتزود بالتقوى والأعمال الصالحة، بحيث يبدو ذلك في سلوكه ومعاملاته، يعوض به ما فاته ويغتنم ما بقي من عمره، فإن أَجَلَ اللَّهِ إذا جاء لا يؤخر، وما بعد الموت من مُسْتَعْتَبٍ وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.

لا يَغُرَّنَّ أحدًا أنه صلى وصام وأنه حج واعتمر وأنه أنفق وتصدق.. فهذا شيخ الأنبياء وولده إسماعيل يرفعان قواعد البيت الحرام وهو أشرف عمل وأخلصه ومع ذلك يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127-128]، فهَيَّا بنا نُلَبِّي أَمْرَ الله فنحقق خيرية هذه الأمة ووحدتها واعتزازها بدينها وقيمها.. وحضارتها وأخلاقها.. مستعينين بالله فهو نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.