طباعة

النفع العام للمجتمع في ميزان الشرع

الإثنين, 29 تموز/يوليو 2019 10:51

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الناس وأشرف الخلق أجمعين، وبعــد:

فها نحن في الأشهر الحُرُم التي عظّمَ الله شأنها، وأحاطَها بمواسم طاعات وقربات، وقد أقبلنا -أيها المسلون- على خير المواسِمِ في أيَّام الله تعالى، موسم الحج وإتيان بيت الله الحرام، وموسم العشر الأوائل من ذي الحجة، وفي مثل هذه الأيام يستذكر المسلمون أعمال الخير والبر والرحمات..

ولقد تكاثرت أدلة الشريعة في بيان عظمة النفع العام للمجتمع؛ حتى جعلتها شعارًا للأمّة المؤمنة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. فجعل من مُكَمِّلات الإيمان فعل الخير ونفع الآخرين، وجعل نتيجة ذلك كله مع التعبد: الفلاح الدنيوي والأُخرويّ.

ولا زال ذهني يعجب من أمر دخول أناس الجنة مع قلة عملهم، تحدّث عنهم الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلّم في السنة النبوية، كمثل مَن سقى كلبا فدخل الجنة، أو هذا الذي أزال الشوك من طريق الناس فرآه النبيّ صلى الله عليه وسلّم يتقلّب في نعيم الجنّة..

وكان ولا يزال النفع للمجتمع وسيلة للبناء والتعمير الذي ينبغي أن يكون عليه حال أبناء المجتمع كله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةً، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا".. وفي ذلك ما يشير إلى أنّ الإسلام دعوة للعمل والنفع للغير إلى آخر لحظة في العُمر.

ويختلف النَّاسُ في هذا الباب على أنواع؛ فمنهم من يُسْعِد النّاس وينفع المجتمع أينما ذهب، ومنهم من يَسْعَدُ الناسُ إذا انصرف وذهبَ!! فتعالوْا بنا لنتوقّف قليلا مع هذه القيمة (النفع العام)؛ سائلين المولى أن يجعلنا من أهل المعروف والنفع للآخرين وأن يديم علينا نِعَمَه، وأن يوفّقنا لما يرضيه، وأن يجعلنا مفاتيح خير مغاليق شرّ..

أولا: مفهـــوم النفع العام للمجتمع:

فعل الخير وإسداؤه للعباد، سواء كان هذا الخير مالاً كالصدقة والإطعام وسقاية الماء وسداد الديون، أو جاهاً كما في الإصلاح بين المتخاصمين والشفعة وبذل الجاه، أو علماً، أو سائر المصالح التي يحتاجها الناس، كحسن المعاملة وإماطة الأذى وعيادة المرضى،...... .

ثانيًا: النفع العام للمجتمع فرض وفضل:

ولقد جعل الله تعالى بذل الخير ونفع الغير فريضة مشروعة، وفضل وضرورة لاستمرار حياة مستقرّة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، فقوله {وافعلوا الخير} أمر يشمل كل خير، وقال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}[النساء:114]، وقال تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}[البقرة:195].

روى البخاري ومسلم، عن أبي موسى الأشعري عن النبي r أنه قال ((على كل مسلم صدقة فقالوا يا نبي الله فمن لم يجد قال يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق قالوا فإن لم يجد قال يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا فإن لم يجد قال فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة))..

روى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه))...

يروي الإمام مسلم -رحمه الله- عن جابر قال: قال رسول الله r ((ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة))...

روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي r قال ((كل معروف صدقة)).
وروى الترمذيّ عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله r ((كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك))..

ثالثًا: النفع العام للمجتمع خُلُق الأنبياء المرسلين وسمت الصالحين المصلحين:

لقد تخلَّق الصالحون بخلُق صناعة المعروف، وكان قانون الخدمة وإسعاد الاس طريقتهم في الحياة، وهذه نماذج لأنبياء من أولي العزم، كانوا يعيشون بمنهجية المعروف وصناعته وبذله:

سيدنا موسى مع ابنتي الرجل الصالح في مدين؛ حتى كافأه الله بزواج وعمل وسكن ونبوّة ورسالة.
سيدنا عيسى في شهادته لأمّه ولرسالته قال: (وجعلني مباركًا).. أي: بركة أينما حللت أو ارتحلت..
سيدنا الحبيب محمد r، كان لا يتأخر عن خدمة غيره، وبهذا مدحته زوجه خديجة -حين نزل الوحي عليه- وأراد تثبيت قلبه بذلك.. يروي الإمام مسلم قيل لعائشة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟ قالت: (نعم بعد ما حطمه الناس) أي بكثرة حوائجهم...
رابعًا: حكم من قصَّر في صناعة المعروف ونفع المجتمع وهو يستطيع:

لقد توعّد الله تعالى مَن قصَّر في صناعة المعروف {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 - 7] {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر:41-44] {ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين}[الحاقة:34-35]...

روى البخاريّ -رحمه الله- عن أبي هريرة t عن النبي r قال ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم)) فذكر منهم ((ورجل منع فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك((…..

خامسًا: ثمار يانعة لنفع الغير وصناعة المعروف:

نيل معية الله ونوال رضوانه جلّ في عُلاه: فصناعة المعروف جود وكرم، والله هو الجواد الكريم، يحب أهل الجود والكرم، كما أنّ من كان في عون أخيه كان الإله في معونته، وقد قال بعض الصالحين: (من مشَى في حاجةِ أخيه جبرًا للخاطر، نال معيّة الله في المخاطر)..
صرف البلاء وسوء القضاء في الدنيا: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)).. وفي كلام أم المؤمنين خديجة ما يدلل على ذلك، (كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب)..
دخول الجنة:روي عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف)) [رواه الطبراني في الكبير]، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)) [مسلم].. وهذا مع صغر العمل الذي بذلَه دخل الجنّة وتنعّم بنعيمها..
مغفرة الذنوب والنجاة من الهلاك: نموذج الذي كان يتجاوز عن المعسرين، ونموذج البغي التي سقت كلبًا؛ فشكر الله لها فغفر لها.. ويكفينا أن نذكّر بالحديث المشهور: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)..
كسب قلوب العباد وشيوع المحبة بين الناس في رحاب مجتمعهم: وانظر معي إلى نموذج الرجل الذي كان له مال عند أبي جهل، وأتى النبيّ له به منه، فعاد الرجل وقد اطمأنّت نفسه برسول الله صلى الله عليه وسلّم، ونموذج صفوان وعطاء النبيّ e له وكسب قلب الرّجل..
سادسًا: آداب وأخلاقيات النفع العام وبذل المعروف:

الإخلاص والنية الصالحة: قال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وقال جلّ شأنه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
شكر صاحب المعروف: فمن لم يشكر الناس لا يشكر الله تعالى.. وعند الترمذي عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء))..
صناعته في أهله وفي غير أهله: كالذي أنفق على السارق والغني والزانية، وتقبّل الله صدقته ومعروفه؛ وربّما يكون ذلك سببًا في هداية العاصي وعفّة الزانية وحرص الغني على الإنفاق..
أن يعلم أن معروفه نوع من المعاملة مع الله قبل أن يكون معاملة مع الخلق، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي))[رواه مسلم]...
استصغار المعروف في نفسه وإن كان كبيرًا.. فلا يتكبّر بمعروفه الذي يفعله، ويسأل الله تعالى المعونة والقبول والتوفيق.
لا تحقرنّ من المعروف شيئًا: فلقد خبّأ الله رضوانه في طاعته، فلا تستصغرنّ طاعة؛ فلربّما كان فيها رضوان الله ومحبّته.. فمن كان له فضل زاد من (مال، أو طعام، أو وقتٍ، أو صحة، أو علمٍ....) فليعُد به على من لا زادَ له..
وأخيرًا أيها الأحبّة:

اصنعوا المعروف في الآخرين، ولا تنتظروا جزاءً ولا شكرًا إلا ممّن أعطاكم نِعَمَه ويسّر لكم كل عسير..
كونوا خير مثال للمؤمنين الصادقين؛ فمثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد..
كونوا مفاتيح خير على أهليكم وذويكم وجيرانكم وأصدقائكم؛ فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا..
واعلم أخي وأختي أنّ من قصّر في حقوق العباد وهو قادر مستطيع لا يتأمّل أن يعطيه الله ما يريد..
***

وقد ظهر لنا من خلال خطبة اليوم أنّ الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح العباد والبلاد، وشجعت أبناءها ومتبعيها على البذل والنفع العام للمجتمع ولو كانت الدنيا تنتهي، مما يطهر النفس البشرية من الشح والبخل والأنانية، وإيثار المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامّة.

وحريٌّ بنا جميعًا في هذا الزمان الذي تكاثرت فيه الهموم على المجتمع وأفراده أن تتلاقى الهمم على رفع الحرج عن الآخرين، وبذل الوسع في إسعاد الخلق جميعًا.

فالبذل البذل ولو بالقليل.. العطاء العطاء ولو باليسير.. ولا يحقرن أحدكم من العمل شيئًا ولو كان ذا شأن قليل عند نفسه؛ فالعمل عند الربّ كبير وعظيم، ويؤجر صاحبه الكثير والكثير..

منقول عن موقع الجمعية الشرعية