طباعة

الفُصحَى.. وِعَاءُ الوحى- أ.د. محمد المختار المهدى

الخميس, 20 كانون1/ديسمبر 2018 10:53

إن الوحى كله، من القرآن الكريم والسنة النبوية، قد نزل باللغة العربية: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِى مُّبِينٍ} (الشعراء: 193- 195)، ولا يمكن بداهةً فَهْم مدلولات هذا الوحى دون إتقان هذا اللسان العربى المبين الذى اختاره الله سبحانه ليكون وعاءً لوحيه الخاتم والخالد، وبذلك استمدت الفصحى خلودها من خلود هذا الدين، وصار التعمق فى دراستها هو الكاشف عن أسرار الوحي..

وبهذا تكاملت الحاجة إلى دراسة الوحى عن طريق اللغة، واستمدت اللغة من الوحى حفظها والعناية بها وحمايتها ضد تيارات التأثر بما يجرى من تطور دلالى فى الألفاظ والتراكيب ومن نزوع إلى تجاوز الضوابط والأنماط التى كانت سائدة حين نزول الوحي. ولذا، احتفظت العربية وحدها ببقاء الإعراب دون أخواتها السامية التى فضَّلت تسكين أواخر الكلمات وذلك بفضل نزول القرآن معربًا.

وإذا أردنا أن نضرب لذلك مثلاً فإن اللغة العبرية- وهى أخت العربية تكتب من اليمين وقواعدها التركيبية والاشتقاقية قريبة جداً من العربية- لجأت إلى تسكين أواخر الكلمات فتاهت مواقع الألفاظ ودلالاتها فاضطرت إلى إضافة علامات تدل على المعانى الإعرابية مثل كلمة (إيت) قبل المفعول به، وأول جملة فى التوراة العبرية توضح ذلك وهي: (بريشيت بارا إلوهيم إيت هشاميم وإيت ها آرص) ومعناها: فى بدء الخليقة برأ الله السموات والأرض.

كمـا لجـأت إلى توحيـد علامة الجمـع المذكر بإضافة يـاء وميم، والجمع المؤنث بإضافـة واو وتـاء.

** ** **

ويمكن تلخيص أسباب ضعف الفصحى فـى العصـر الراهـن فى الانهزامية التى سادت الأمة منذ أن وطئت أقدام المحتل أرض العرب، حيث خطط من أول وهلة لإضعاف العربي أمام لغته؛ وعقد لذلك مؤتمرات وخرجت منها قرارات وتوصيات من أبرزها مؤتمر القاهرة الذى انعقد سنة 1906م برئاسة (زويمر) لبحث أسباب قوة الأزهر وجهوده فى نشر الفصحى ووصلوا إلى أن قوته ترجع إلى:

- الأوقاف التى تساعده على الاستمرار والاستقلال.

- انتشار الكتاتيب التى تُعنى بحفظ القرآن الكريم.

- المكانة التى اكتسبها علماء الأزهر فى نفوس الشعب وقادوه إلى المقاومة.

ومن هنا اتجهت جهودهم إلى محاولة إلغاء الأوقاف على مراحل حتى لا يفطن الشعب إلى ما يريدون.

وأشاعت حول الكتاتيب افتراءات واستغلت بعض الأخطاء فى الممارسة لصرف الناس عن إدخال أولادهم فيها، وقد صرح بذلك (اللورد كرومر) فيما جاء فى حلقات الأهرام (ديوان الحياة المعاصرة).

وأنشأت للكتاتيب بدائل فى المدارس المدنية ومدارس اللغات مشترطة خلو هذه المدارس من التربية الدينية، والعناية الفائقة بدراسة اللغة الانجليزية، ولأن هذه الكتاتيب كانت تبدأ مع الطفل من سن الرابعة اخترعوا رياض الأطفال والحضانات ليبدأ الطفل فى هذه السن الباكرة بتعلم لغة أخرى غير لغة القرآن ليكون انتماؤه لأصحاب هذه اللغة ولثقافتهم، وليزدرى لغته ودينه وثقافته. وهذا ما لا يوجد فى أى دولة من دول العالم أن يتعلم النشء فى المرحلة الأولى لغة غير لغة بلده.

إن هذا الذى نقوله عن تأثير المخططات العدائية ضد اللغـة العربيـة وما نزل بها من وحى ليس افتراءً ولا افتراضاً فهو ما صرح به أئمتهـم.

فيقول (دنلوب) مستشار وزارة المعارف المصرية بعد أن بحث المناهج التعليمية فى مصر: "إما أن نطور الأزهر حتى يقبل المنهج الغربى فى التعليم، وإما أن ننشئ مدارس وجامعات مدنية تدرس علوم الدنيا فقط ولا صلة لها بالدين.. ثم قال: إن الفرض الأول مستحيل التحقيق فى هذا الوقت فلنتجه إلى الفرض الثاني".

** ** **

إن فهم أى نص شرعى أو أدبى يحتاج إلى دلالات أربع: هى الدلالة المعجمية، ودلالة الصيغة، ودلالة التركيب، ودلالة السياق.

* فالدلالة المعجمية: لابد منها لفهم المعنى اللغوى المستعمل فى زمن ورود النص، ولأن القرآن الكريم قد راعى اللهجات السائدة فى الجزيرة العربية حين تنـزّله على سبعة أحرف كان لابد من الدقة فى فهم مدلول اللفظ القرآنى المستعمل، ومن أجل هذا ألف علماء اللغة كتب غريب القرآن وغريب الحديث لتكشف معانى الكلمات الغريبة؛ ومن ذلك كلمة (الفتح) المستعملة فى جنوب الجزيرة العربية بمعنى الحكم والقضاء والتى نزل بها القرآن فى قوله تعالي: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (الأعراف:89) وقد توقف فى فهمها سيدنا عبدالله بن عباس- رضى الله عنهما- مع أنه ترجمان القرآن حتى سمع ابنة ذى يزن تقول لخصمها "تعال أفاتحك" بمعني: أقاضيك.

* أما دلالة الصيغة: فإنها تضيف معنى جديداً إلى اللفظ وندرك ذلك فى فهم معنى (الرحمن الرحيم) حيث إن اللفظين مشتقان من الرحمة ولكن الصيغة الأولى تدل على بلوغ الصفة منتهاها والصيغة الثانية تفيد انتشار هذه الصفة وذيوعها على المرحومين، ولذلك قال ابن القيم: الرحمن صفة ذات والرحيم صفة فعل.

* أما دلالة التركيب: فقد عُنى بها علم النحو وعليها بنى الاجتهاد الفقهى فى كثير من الأحكام فقوله تعالي: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} (البقرة:178). مَن جعل جملة (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) مبيّنة لكلمة القتلى لم ير القصاص إلا فى المتماثلين. ومن جعل هذه الجملة مستأنفة جعل القصاص فى كل القتلى أى النفس بالنفس.

* وأما دلالة السياق: فلها أثر كبير فى فهم المقصود الحقيقى فقد توقف الإمام مالك فى فهم الآية التى تحصر المحرمات فى قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَا أُوْحِى إِلَى مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) إذ فهم من هذا القصر عدم حرمة غيرها من المطعومات على أنه قصر حقيقي. وفهمها الإمام الشافعى على أنه من القصر الإضافي.

وهكذا نرى أن هذه الدلالات تُغطى كل الجوانب المؤثرة فى فهم الأساليب.

وهنا، من المهم أن نعلم أن العلوم الإسلامية والعربيـة متكاملـة كالأوانى المستطرقة؛ فلا فهم للتفسير أو الحديث أو الفقه أو الأصول إلا باللغة العربية التى كُتبت بها هذه العلوم، ولا إتقان للغة بدون فهم تلك النصـوص.

** ** **

إن دراسة اللغة ينبغى أن تقوم على استخراج القواعد من النصوص، وعدم إرهاق الدارس بكثرة القواعد قبل تذوقه للأساليب الفصيحة، كما أنه ينبغى عدم دراسة التفصيلات الدقيقة فى التعليل للقواعد بحيث نتجنب العِلَل الثوانى والثوالث ونكتفى بالعِلَل الأُوَل، وسيكون من نتائج هذا اختصار كثير من كتب النحو التى وصل بعضها إلى أكثر من ثلاثين مجلداً، وقصر دراسة ذلك على مرحلة الدراسات العليا، وهناك أطروحات تدعو إلى إنشاء (نحوٍ قرآني) يعتمد على دراسة القواعد الوارد لها أمثلة كثيرة فى القرآن والبدء بها فى التعليم، بعيداً عن الشواهد الشعرية التى قد تكون ممثلةً للهجاتٍ لم يعتمدها النص القرآني، وفى ذلك تخفيف وتيسير على دارسى اللغة وخاصةً لحافظى القرآن الكريم.

ولهذا نقول: الفصحى وعاء الوحى، وبيان السماء إلى الأرض، واختيار العليم الخبير.. وعلينا أن نمكِّن لها في مناهج التعليم ووسائل الإعلام وفي كل المجالات؛ بحيث لا تنقطع أو تضعف صلةُ الأجيال الناشئة بها، حتى يكونوا قادرين على فهم القرآن الكريم وتذوق معانيه ومقاصده..