رغم أهمية المسجد الأقصى في الرؤية الإسلامية؛ حيث المساجد- عمومًا- بيوتُ الله في الأرض، ومحطُّ مغفرته ورحماته، ومَظهر وحدة المسلمين وتماسكهم.. الساعي إليها مأجور، والمعتكف فيها مغفور الذنوب، والقائم على عمارتها مشهود له بالإيمان.. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمساجِد».
رغم هذه الأهمية للمساجد في الرؤية الإسلامية، فإن المسجد الأقصى يكتسب أهمية فوق هذه الأهمية؛ بحيث صار الأقصى رمزًا مكثفًا لعدد من المعاني والدلالات التي تجعل منه رمزًا إسلاميًا، وعنوانًا حضاريًا..
فإذا كانت قضية فلسطين عامةً- بتفاصيلها المتعددة، وبإشكالياتها المختلفة- تجسِّد حال الأمة، انتصارًا أو انكسارًا.. وتحدِّد موقعها من السلّم الحضاري، صعودًا أو هبوطًا.. وتعد أصدق "ترمومتر" يمكن التعرف من خلاله على واقع المسلمين.. إذا كان هذا هو شأن قضية فلسطين؛ فإن المسجد الأقصى، برمزيته المكثفة، يجسِّد هذه القضية بكل مراحلها وتفاصيلها، ويمثلها أصدق تمثيل.
ولذا، لم يكن غريبًا أن يتنادى المسلمون من بلاد شتى لنصرة الأقصى، كلما مكر به الاحتلال الإسرائيلي.. على النحو الذي رأيناه في الأزمة الحالية التي تفجرت بعد وضع الاحتلال بوابات حول مداخل الأقصى؛ سعيًا منه لبسط سيطرته على المسجد، ولفرض أمر واقعٍ يندرج ضمن مخططات التهويد والهدم، وتغيير المعالم وتزوير التاريخ.
ومن قبل، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي سميت "انتفاضة الأقصى"، إثر تدنيس زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك أرييل شارون باحات المسجد الأقصى في 28 سبتمبر 2000؛ فتجددت ملاحمُ وبطولات أهل القدس وفلسطين في الصمود والذود عن المقدسات، وتجاوبت معها الأصوات من البلاد العربية والإسلامية، بل ومن أحرار العالم أجمع.
** ** **
لقد مر صراع الغرب مع بلاد الإسلام بأدوار شتى، وعبر أدوات مختلفة؛ عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا، وغير ذلك.. وانتهى الغرب- مع أوائل القرن العشرين- إلى ضرورة تقسيمِ البلاد الإسلامية، وقطْعِ الطريق على وحدتها وتماسكها، وعلى إمكانية نهوضها من جديد..
ووجد الغرب أن أفضل وسيلة لتحقيق ذلك أن يغرس كيانًا وسط البلاد الإسلامية، يكون مغايرًا لها عرقيًا ودينيًا وثقافيًا؛ بحيث يتمكن هذا الكيان من بث الفتنة بين الدول الإسلامية، وإشغالها بنفسها، وإعاقة أي إمكانية للوحدة والنهوض.
ومن هنا، زرع الغرب "دولة إسرائيل" في المنطقة، ومازال يمدها بأسباب البقاء والحياة، وبأدوات التفوق على العرب في المجالات المختلفة.
وبعد أن كان مطروحًا في الغرب- وهو يحاول أن يكفِّر عن "أخطائه" بحق اليهود، أو أن يتخلص من "المشكلة اليهودية"- عدة أماكن لإقامة دولة لليهود (مثل أوغندا، وقبرص)، وكانت المنطقة العربية مجرد احتمال من هذه الاحتمالات.. انتهى الغرب إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين؛ لتكون أداته في تمزيق الصف الإسلامي.
ولهذا، كانت القضية الفلسطينية تجسيدًا للصراع الحضاري بين الغرب والشرق، وعنوانًا على الهيمنة الغربية على الدول العربية والإسلامية.. هذه الهيمنة التي يراد لها أن تكون وضعًا راسخًا، وصورة طبيعية، وامتدادًا لعهود الاستعمار والتدخل المباشر.
** ** **
أمام هذه الحقائق، التي تمت الإشارة إليها بإيجاز، ينبغي أن ندرك أن المسجد الأقصى له مكانة متميزة راسخة؛ تتخطى مجرد كونه مسجدًا من ملايين المساجد المنتشرة في أقطار العالم، وتتجاوز كونه ثالث المساجد التي لا تُشد الرحال إلا إليها، كما في الحديث الصحيح.. إلى كونه تجسيدًا للقضية التي تلخِّص تاريخ العرب المعاصر، وعنوانًا على صراع الغرب مع العالم الإسلامي، ومحاولاته الدائبة للهيمنة عليه واستنزاف ثرواته.
إن الدفاع عن المسجد الأقصى أمرٌ يوجبه الإسلام، وينال القائم به الشرف والفخار في الدنيا والآخرة؛ فليس أشرف من الدفاع عن بيوت الله.. تمامًا كما أنه أمر تفرضه معادلات الصراع الحضاري؛ الذي يجب أن نخوضه بوعي وإدراك لأبعاده ومجالاته..