الكاتب : حسام الدين جمال .. سلام على الذين أوتوا مفتاح الثبات، ذلكم الجأش الرابط الذي لا يبالي أصحابه أي خطر نزل، و أي بلاء وقع، يعلمون أن أجلهم موقوت في كتاب، وأن رزقهم محفوظ في سماء، فلا البشر في جبروتهم لو اجتمعوا يضرون، ولا الخلق في إحسانهم لو اتفقوا ينفعون، إنما توكلهم على الله، لا يخشون من مخلوق شرًا، ولا يرقبون من مرجوٍ خيرًا. أكتب هذه الكلمات أحدث بها نفسي لألقي في روعها الثبات، فلا تضعف، وأبث في قلبها القوة، فلا توهن، وأضع في عزمها الحزم فلا ترجع، راودتني نفسي في نشرها، لكني تبينت أن الرأي كشفها، فذلك أدعى للثبات وأدنى للالتزام؛ حتى لا يقال انظروا هذا الذي كان يكتب عن الثبات كفر بمذهبه وخرج عن رأيه وخالفنا إلى ما ينهانا عنه، فأكتب هذه الكلمات لنفسي بقدر ما أكتبها لمن يقرأها، واعتزمت كتابتها في عدة تدوينات، وحاولت دائمًا أن أتلمس سير السابقين والحاضرين، لعلي أجد فيهم قدوة تُحتذى، ومثالًا يُهتدى. أهل الثبات دومًا مذهبهم في الحياة (أحينا بمعرفتك) فلا خير من القدر المكتوب، ولا زيادة عن النصيب المقدور، وفي إيمانهم أن الله يسمع ويرى، وإن أخفوا في صدورهم خيرًا، أظهر لهم الله في حياتهم أمثاله. فالقاعدة الأولى في الثبات هي الإيمان بالقضاء والقدر، فلا شيء حادث في الكون، إلا بإذن خالقة، ولا أمر حاصل في العالم إلا بتقدير بارئه، والخالق العظيم لا يظلم الناس شيئًا، ومن بواعث الثبات الإيمانُ بأن الموت نازل لا محالة، ويقولون بأن نعم الحارس الأجل، أي أنه طالما لم يحن موعد الأجل فلا جدوى من الخوف والحذر، وإن جاء أوان الموت فلا فائدة من الدفاع والتجنب! الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان كان من رجال الدول الذين عرفهم التاريخ بالثبات حتى أنه يروى أنه في يوم واحد اجتمعت عليه المصائب ولم تأته فرادى، فبينما كان خارجًا في معركة ما تاركًا عاصمته دمشق من ورائه جاءه خبر بتحرك إمبراطور الروم إلى عاصمته واندلاع ثورة بها، و وقوع القدس بيد عدوه ومقتل ابن زياد أحد أكبر قواده وهزيمة جيشه، جاءته الأخبار في يوم، ويروى عن من رآه في ذلك أنه كان ثابت الجنان، هادئ النفس، فعاد وهادن ملك الروم وأخمد الثورة واستعاد بلاده، واستمرت خلافته واحد وعشرين عامًا. فلولا صموده واستبساله لانهار وخارت عزائم من حوله وما ورد اسمه في كتب التاريخ إلا لمامًا!
مفتاح الثبات الأول أن تعلم علم اليقين أنك غني بنفسك فريد بروحك، إنما منبعه من داخلك أنت، لا يمكنك أن تستورده من خارجك، فاجعل في نفسك زخرًا من الثقة تستمد منه في وقت الصعاب، ثقة في أنك قادر على التخطي والوصول، ثقة في أنك تستطيع الوقوف والصمود، ثقة في أنك لا يمكنك اليأس والرجوع. اعلم جيدًا أن الشيطان لن يذلل لك الطريق، لسوف يزين لك الرجوع، فلا ترجع، ولئن ألح في الغواية زد أنت في السعي، يغلبك مرة وتغلبه اثنتين! وليت الشيطان كان وحده عدوك في الطلب، فإن لك في نفسك عدوًا مثبطًا، ولك في داخلك صوتًا محبطًا، لا أقول تجاهله فذلك صعب المنال، ولكن ليس أقل من الكبح من جماحه، والنجاة من فخاخه، وإن لك في الناس أعداءا لا عدوًا واحدًا بعضهم غايته الكره الحسد وغيرهم غايته المكر والكيد! يقول ابن الجوزي: إذا رأيت تثبيطًا من الباطن فاستغث بعون اللطيف لعلك تتعلق بقطار المجتهدين ومن مواقف الثبات الخالدة في التاريخ ذلكم المثال الذي ضربته ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، حين دخل السفاح (الحجاج بن يوسف الثقفي) مكة التي كانت يحكمها آنذاك ابنها عبد الله بن الزبير، فقتل الحجاج ابن الزبير وعلق جسده على خشبة عالية، فقابلت الحادث الأليم بقلب ثابت وصبر كبير، وهي التي جاوزت التسعين من عمرها، وكل جسمها وذهب بصرها، إلا أن في داخلها نفسًا قوية لم تضعف حين ضعف الناس، وإرادة صلبة لم تنهزم حين انهزم الناس، فأراد الحجاج أن يكسر تلك النفس الأبية فأرسل إليها قائلًا: (لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك»، فأبت واستمسكت وقالت: «والله لا آتيك حتى تبعث إلى من يسحبني بقروني»، فما وجد الحجاج بدًا من أن ينزل عن رأيه ويذهب هو إليها، فيقول: ماذا رأيتني صنعت بعدو الله (يقصد ابنها عبدالله)؟ فترد عليه في ثبات تهتز له الجبال، وترتجف له نفس من يقرؤها: (رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له يا ابن ذات النطاقين أنا والله ذات النطاقين؛ أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله حدثنا أن في ثقيف كذابًا ومبيرًا، فأما الكذاب فرأيناه – تقصد المختار الثقفي – وأما المبير فلا إخالك إلا إياه) فقام الحجاج عنها ولم يراجعها، وهو من هو من البطش والتجبر، فتلك امرأة هزمت رجلًا أذل الرجال!